بقلم د. باسل نعمان
باحث اقتصادى
لم يعد الشمول المالي في مصر مجرد ملف تنموي يُطرح على موائد النقاش، بل أصبح قضية محورية تتوقف عليها استدامة النمو الاقتصادي واستقرار المجتمع. ولعل التحديات الراهنة من ضغوط تضخمية وارتفاع الاعتماد على النقد في المعاملات اليومية، تجعلنا في أمسّ الحاجة إلى حلول عملية قابلة للتنفيذ السريع، قادرة على إحداث أثر مباشر. ومن هنا يبرز مقترح ربط المدفوعات الحكومية بالمحافظ الإلكترونية كخطوة نوعية نحو التحول الرقمي الكامل وتعزيز كفاءة السياسات الاقتصادية.
الواقع يكشف أن نسبة كبيرة من المصريين، خاصة في الريف وبين الشرائح الأقل دخلًا، ما زالوا خارج المنظومة المصرفية الرسمية. هذا الوضع لا يقتصر أثره على تراجع فاعلية السياسات النقدية فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى تضخم الاقتصاد غير الرسمي، ويقلل من قدرة الدولة على إدارة السيولة والتحكم في التضخم. ورغم جهود البنك المركزي المصري خلال السنوات الأخيرة في دعم التكنولوجيا المالية وإطلاق المبادرات، إلا أن هذه الفجوة ما زالت قائمة وتشكل عبئًا على الاقتصاد الكلي.
إن المقترح يقوم على مبدأ واضح: تحويل كل المدفوعات الحكومية – من معاشات ورواتب ودعم نقدي – إلى المحافظ الإلكترونية خلال فترة زمنية لا تتجاوز ثلاث سنوات. خطوة كهذه ستُحدث التحامًا مباشرًا بين السياسة المالية التي تديرها وزارة المالية والسياسة النقدية التي يقودها البنك المركزي، فتتحول المدفوعات الحكومية من مجرد تدفقات نقدية خارج النظام الرسمي إلى أداة فعّالة تدعم استقرار السوق النقدي.
ولإنجاح هذه المنظومة لا بد من توفير حوافز مشجعة للمواطن. فالحوافز المالية الصغيرة مثل الكاش باك أو الإعفاء من بعض الرسوم ستدفع المتعاملين إلى تفضيل المحافظ الإلكترونية بدلًا من الاكتفاء بسحب أموالهم نقدًا. في الوقت ذاته، ينبغي إلزام البنوك وشركات الدفع الإلكتروني بتوفير خدمات سهلة ومنخفضة التكلفة في القرى والمناطق النائية، مع استثمار جاد في البنية التحتية الرقمية لضمان كفاءة الخدمة وسرعتها حتى في أبعد المناطق.
الأثر المتوقع لهذه السياسة سيكون واسعًا وعميقًا. فمن الناحية النقدية، ستدخل نسبة أكبر من الأموال في النظام الرسمي، مما يمنح البنك المركزي مرونة أكبر في إدارة السيولة والسيطرة على معدلات التضخم. أما من الناحية المالية، فسوف تتراجع تكلفة طباعة وتوزيع النقد، وتزداد شفافية المدفوعات الحكومية، الأمر الذي يسد ثغرات الهدر ويضمن وصول الدعم لمستحقيه. وعلى مستوى الاقتصاد الكلي، فإن دمج ملايين الأفراد في النظام المصرفي الرسمي سيؤدي إلى توسيع قاعدة النشاط الاقتصادي المنظم، ويعزز من ثقة المستثمرين الأجانب بقدرة مصر على قيادة تحول رقمي جاد.
لكن الأثر لا يقف عند حدود الاقتصاد وحده. فربط المدفوعات الحكومية بالمحافظ الإلكترونية يعني تقليص الفجوة بين الدولة والمواطن، إذ يضمن وصول المعاشات والدعم بشكل مباشر وسريع، دون وسطاء أو بيروقراطية أو تأخير. هذا يعزز الثقة المتبادلة، ويمنح المواطن شعورًا بأن الدولة قريبة منه وتلبي احتياجاته بكفاءة وعدالة. كما أن المنظومة الرقمية الجديدة يمكن أن تصبح أداة للعدالة الاجتماعية، بفضل قدرتها على تتبع حركة الدعم والإنفاق بدقة، بما يحسن من استهداف الفئات الأكثر احتياجًا، ويحد من التسرب والهدر.
وإذا ما طُبّق هذا المشروع بجدية، فسيكون بمثابة درع للاستقرار الاجتماعي في مواجهة الأزمات الاقتصادية العالمية. إذ يربط ملايين الأسر بالنظام المالي الرسمي، ويمنحهم حماية أوسع، ويفتح أمامهم أبوابًا جديدة للتمويل متناهي الصغر والادخار، ما يرفع من قدرتهم على مواجهة تقلبات الأسعار والضغوط المعيشية.
إن ربط المدفوعات الحكومية بالمحافظ الإلكترونية ليس مجرد إجراء إداري، بل هو قرار استراتيجي يعيد هيكلة العلاقة بين الدولة والمواطن، ويؤسس لمرحلة جديدة من التكامل بين السياسات النقدية والمالية. خطوة كهذه، إذا ما أُطلقت في إطار مبادرة وطنية متكاملة يقودها البنك المركزي بالتنسيق مع وزارة المالية، ستشكل نقطة تحول فاصلة في مسار الاقتصاد المصري، وتضعنا على الطريق الصحيح نحو اقتصاد رقمي أكثر استقرارًا وقدرة على مواجهة تحديات المستقبل.