Loading...
رئيس مجلس الإدارة
د.حاتم صادق

المصرى اون لاينبوابة خبرية متخصصة

رئيس التحرير
قدري الحجار

هل تراجعت واشنطن عن استراتيجيتها السابقة؟
الدكتور حاتم صادق

الدكتور حاتم صادق

ما يقرب من ثلاث سنوات والعالم يحاول التخارج من مرحلة احادي القطبية الي مرحلة تعدد الأقطاب، وساهم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وهو قبل ذلك رجل مال واعمال في التوجة الي التعددية، بعد ان اطلق استراتيجيته الجديدة التي تعتمد علي تقليص التواجد الأمريكي حول العالم من منطلق تقليص النفقات ، وتحويل خدمة أمريكا للدفاع عن الآخرين إلى خدمة مدفوعا مسبقا، وهو ما دعنا الي مشاهدة اللقطة الشهيرة لهروب القوات الامريكية من أفغانستان ، وكذلك سحب جميع قواتهم من العراق، فضلا عن تقليص تواجدهم في سوريا ومنطقة غرب افريقيا وبحر الصين.. كان هذا الانسحاب العاجل هو الذي فتح الطريق لمحاولة ملء الفراغ الذى سببه هذا الانسحاب من جانب أطراف أخرى ، مثل الصين بقوتها الواعدة ، وروسيا الساعية الي اعادة مجدها القيصري السابق.
وكانت الحرب في أوكرانيا احد الأسباب التي اعتقد المحللون السياسيون انها ستكون كافية لتراجع واشنطن عن استراتيجيتها ،لكن هذه الحرب رغم صعوبتها وتأثيراتها السلبية علي اقتصاديات العالم اجمع، لم تكن مبررا من وجهة نظر واشنطن للتراجع عن استراتيجية التقليص.. واستمر الوضع القائم كما هو حتي وقعت احداث غزة في السابع من أكتوبر الماضي..تبدلت وجهات النظر سواء بالبيت الأبيض أو البنتاجون أو حتي الكونجرس، ولم تمض سوى ساعات حتي صدرت الأوامر بالزحف العسكري الي الشواطئ الإسرائيلية والفلسطينية، وبعدها بأيام معدودة تواجدت أكبر ثلات حاملات عسكرية في مياه البحر المتوسط، وكان هذا نذير بتراجع واشنطن عن استراتيجية التقليص، وهي تدرك أن من يصنع أدوات القوة ويمتلك مفرداتها يمكنه كتابة التاريخ بالطريقة التي يريدها علي الأقل الي حين.
في حقيقة الأمر أن الإدارة الامريكية ادركت مبكرا أن أزمة أوكرانيا لا يمكن أن تكون مبررا لتراجعها عن موقفها السابق ، بل على العكس يمكن ان تتحول الي آداه تجيد واشنطن استغلالها في استنزاف روسيا ، كما حدث سابقا في أفغانستان، في المقابل وتبعا لوجهة المنظر الامريكية فان الاحداث في غزة تختلف تماما ، ويمكن اعتمادها سبب رئيسي في التراجع عن استراتيجية التقليص اذا ارادت ذلك، يعود هذا الي عدة عوامل رئيسية ، أولها ان تعرض إسرائيل الحليف الاستراتيجي الوحيد فعليا في المنطقة لتلك النكسة لا يضر بتل ابيب فقط وانما يطال الهيبة الأمريكي، وهذا ينعكس سلبا علي مصالحها في كل بقاع العالم، والثاني ،ان إسرائيل كانت موعودة بتولي شرطي المنطقة النفطية مستقبلا ، وهذا الهجوم اضعف كثيرا من مصداقيتها لدي صناع القرار في واشنطن ، بل انه ازعج بدرجة كبيرة قيادات البنتاجون الذين طالبوا بفرصة لإعادة دراسة الملف برمته. الثالث، ان نجاح حماس في احراج إسرائيل يصب تلقائيا ليس فقط لصالح ايران باعتبارها الداعم الرئيسي للحركة، لكنه أيضا لكل الحركات والمنظمات المناوئة لإسرائيل وأمريكا في الشرق الأوسط علي طول الجبهات المفتوحة سواء في سوريا او العراق او لبنان، وربما يشجع أطرافا اخري علي خوض نفس التجربة ضد مصالح أمريكية وإسرائيلية علي مستوي العالم. الرابع ، ان دول أوروبا عانت من تجربة شتاء مريرة نتيجة التراجع الحاد في امدادات النفط والغاز لاوروبا بسبب حرب أوكرانيا، لم تنقذها سوى اتفاقيات غاز ونفط وقعتها مع دول عربية للاستعاضة عن الغاز الروسي ، واندلاع صراع عربي إسرائيلي ، سيكون معناه فعليا موت أوروبا، لانه سيكون هناك حظر نفط وغاز على دول أوروبا اذا اتسعت دائرة الصراع ، وتجربة حرب عام ١٩٧٣ لازالت ماثلة في الاذهان عندما منع العرب ضخ البترول الي أوروبا. لذلك لم يكن غريبا ان نجد اساطيل حربية فرنسية وبريطانية تشارك في المجهود الأمريكي.
من غير المعروف أو المؤكد حتى اللحظة ان كانت الولايات المتحدة بموقفها من أزمة غزة قد تراجعت فعليا عن استراتيجية التقليص ام لا ، لكن الغريمين ، الصين وروسيا، لهما رأي آخر اخر وهما في الانتظار ، وفي اخر زيارة قام بها الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى موسكو، وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على باب الكرملين لتوديع صديقه، وقال شي لنظيره الروسي إنه "في الوقت الحالي ستطرأ تغييرات لم نشهد مثلها منذ 100 عام، ونحن من نقود هذه التغييرات معاً"، فأجاب بوتين مبتسماً "أوافقك الرأي".
كانت اللهجة الطاغية غير رسمية لكن هذا الحديث لم يكن مرتجلاً، وأصبحت عبارة "تغييرات لم نشهد مثلها منذ قرن من الزمان" هي مفتاح التحرك الصينى الروسي فيما بعد.
ورغم أنها قد تبدو عبارة عامة فإنها تلخص بدقة طريقة التفكير الصينية المعاصرة في النظام العالمي الناشئ، أو بالأحرى "اللانظام"، ومع ازدياد قوة الصين حاول صناع السياسة والمحللون الغربيون تحديد نوع العالم الذي تريده الصين، ونوع النظام العالمي الذي تهدف بكين إلى بنائه بقوتها، ولكن بات من الواضح أن الاستراتيجيين الصينيين عوضاً عن محاولة تعديل النظام الحالي بصورة شاملة أو استبداله بشيء آخر، شرعوا في الاستفادة على أفضل وجه من العالم كما هو في وضعه الحالي أو كما سيصبح في القريب العاجل.
وفي الوقت الذي يحاول فيه معظم القادة وصانعي السياسات الغربيين الحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد، وربما تحديث الميزات الرئيسة وإدماج جهات فاعلة إضافية، فإن الاستراتيجيين الصينيين يوضحون بصورة متزايدة أن هدفهم هو الصمود في عالم بلا نظام، وفي الواقع تعتقد القيادة الصينية، بدءاً من شي ووصولاً إلى القيادات والمناصب الأدنى مستوى، أن بنية النظام العالمي التي أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الثانية أصبحت غير ملائمة، وأن محاولات الحفاظ عليها لا تجدي نفعاً، وبدلاً من السعي إلى إنقاذ النظام تستعد بكين لفشله.
ورغم أن الصين والولايات المتحدة تتفقان على أن نظام ما بعد الحرب الباردة قد انتهى فإنهما لا تراهنان على النظام الجديد نفسه الذي قد يحل مكانه، ففي واشنطن يعتقد أن عودة المنافسة بين القوى العظمى تتطلب تجديد التحالفات والمؤسسات في صميم نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي ساعد الولايات المتحدة في الانتصار خلال الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، ويهدف هذا النظام العالمي المحدّث إلى دمج كثير من دول العالم تاركاً الصين وعدداً من أهم شركائها، بما في ذلك إيران وكوريا الشمالية وروسيا، معزولين عن العالم الخارجي.
المؤكد، انه اذا كانت الإدارات الامريكية المتعاقبة على مدى ٢٠ عاما قد فشلت في أجندتها الخارجية في العديد من القضايا الإقليمية والدولية خاصة فيما يتعلق بملف مكافحة الارهاب، فإنها الآن باتت علي المحك خاصة ان موقفها مازال يكتنفه الكثير من الغموض في الوقت الذي حزم فيه غريميها الصين وروسيا امرهما في انتظار أي خطأ جديد لها.



تواصل معنا