زمنيا وفي اقل من ٦ ساعات تغيرت مفردات خريطة الصراع في الشرق الأوسط، واصبح ما قبل تلك الساعات مغاير تماما لما بعدها.
في نفس التوقيت وجهت إسرائيل ضربة مزدوجة لقيادات اكبر جبهتين ضمن ما يعرف ب"وحدة الساحات" التي تعتقد ايران انها فرضتها قصريا علي تل ابيب.. الأول فؤاد شكر، رئيس اركان قوات حزب الله في الضاحية الجنوبية في بيروت، وبعدها بساعات قليلة إسماعيل هنية زعيم المكتب السياسي لحركة حماس في العاصمة الإيرانية طهران ،والذي مثل اغتيالة حرجا وضربة قاسمة لهيبة الجمهورية الإسلامية.
اغتيال هنية وهو ينزل ضيفا علي طهران لحضور مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد يعد انتهاكا جسيما لسيادة ايران، وينهي فعليا كل ما يقال حول قدرة الجمهورية في حماية امنها الداخلي. والأكثر من ذلك ان الرئيس الجديد مسعود بزيشكيان المنتمي للتيار الإصلاحي، اصبح في موقف صعب للغاية لانه كان يضع علي قائمة أولوياته تحسين العلاقات مع الغرب وواشنطن، ومن المؤكد ان الاغتيال سيجبره علي تعديل تلك القائمة وهو ما تريده إسرائيل التي تري ان تحسين العلاقات سيؤدي الي حتما رفع العقوبات وتسريع برنامجها النووي.
قبل عمليتي الاغتيال كنا امام مشهد معقد مع اقتراب الحرب في غزة من عامها الأول دون بارقة أمل في احتواء هذا الصراع الجنوني، والآن أصبح المشهد اكثر تعقيدا وضبابية والأخطر ان مبررات توسيع الحرب أصبحت اكثر من أسباب توقفها، لدرجة ان المنطقة بالكاملة مهددة بالانزلاق الي اتون صراع إقليمي.
اللافت أن ايران مصرة على تمرير اجندتها الخاصة في المنطقة من خلال محور "وحدة الساحات" الذي تديره ميليشياتها في لبنان واليمن والعراق، اذا اضفنا اليه التنسيق الكامل مع عناصر المقاومة الإسلامية في غزة والقطاع. بل ان طهران تتعمد مع سبق الإصرار في إظهار هذا التنسيق بينهما والتأكيد عليه سياسيا وإعلاميا، وهو ما بدا جليا بعد الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله والذي تناغم أحيانا وتطابق أحيانا اخري مع خطاب زعيم "أنصار الله" عبد الملك الحوثي في مفرداته وعناوينه. بالتالي من الصعب عدم الاخذ في الاعتبار الرابط بين قصف الجيش الإسرائيلي للحديدة وقصفه في الوقت عينه مخازن للأسحلة تابعة لـ"حزب الله" في جنوب لبنان.
ولكن هل هذا التنسيق او تلك الجبهات لها تأثير حقيقي علي مجريات الأمور في المنطقة؟ في الحقيقة ان هذا السؤال يحتاج الي الكثير من المراجعات الزمنية، فمنطقة الشرق الأوسط بمسماها السياسي شهدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حروبا وصراعات إقليمية ودولية غير مسبوقة بدأت بحرب السويس عام ١٩٥٦ من القرن الماضي ، ومرورا بالحروب العربية الإسرائيلية ، الحرب في لبنان، والصراع في اليمن، الذي تزامن مع الحرب العراقية الإيرانية، ثم الغزو العراقي للكويت، ثم جاء الغزو الامريكي للعراق، ليفتح الطريق أمام ما يسمي بحروب الجيل الرابع والخامس بثورات ما سمي بالربيع العربي الذي ادخل دولا مثل ليبيا وسوريا ضمن قائمة الدول ذات الحروب الاهلية ، فضلا عن السودان التي انضمت مؤخرا لنفس القائمة.
أي ان الصورة قبل مصطلح "وحدة الساحات" لم تكن وردية، بل يمكن القول ان حجم الصراعات والنقسامات الإقليمية هي التي افرزت مثل تلك المصطلحات للتعامل مع مقتضيات اللحظة الراهنة تبعا لمصالح واجندة الدولة. ليس ما سبق هو مبرر للقبول بالاجندة الإيرانية غير البريئة التي زادت من ضبابية المشهد الإقليمي، لكن الصورة اكثر تعقيدا مما نري، ومن يختزلها في هجوم السابع من أكتوبر الماضي فهو غير منصف لطبائع الأشياء ويغض الطرف عن الأسباب الحقيقة لهذة الازمة المركبة.
لكن لو تركنا ما سبق، فان الاذرع الإيرانية لن تظل مرهونة علي طول الخط بما تمليه طهران عليها، وقريبا يمكن ان تتقاطع المصالح الناشئة لبعض تلك الاذرع مع مصالح الممول الرئيسي وربما تتصادم ، وهذه واحدة من المعادلات الجهنمية للحرب في المنطقة والتي لا يمكن قراءتها خارج صلاتها المتينة بماضي صراعات المنطقة ومستقبلها وفي مدى أقرب خارج التحوّلات الفلسطينية والإسرائيلية وعلى مستوى المشهد السياسي الأميركي، ولاسيما بعد تنحّي الرئيس جو بايدن عن الترشح لولاية ثانية مع ما لذلك من تأثير على مستقبل الشرق الأوسط.
وبعد مرور تسعة أشهر على الحرب الأكثر دموية على قطاع غزة. فالنتائج المرشحة للظهور تشير الي ان صراع "حماس" مع إسرائيل لم يلغ صراعها مع السلطة الفلسطينية، وإن كان يمكن تاريخيا ومن حيث المبدأ، تحميل الطرفين مسؤولية هذا الصراع. فـ"حماس" في اللحظة الراهنة هي من يتحمّل مسؤولية استمرار الانقسام الفلسطيني باعتبار أنها الجهة الفلسطينية الرئيسة التي تخوض الصراع في قطاع غزة. وإذا كانت إسرائيل مسؤولة واقعا عن هذا الشلال من الدماء الفلسطينية فإن المسؤولية السياسية والأخلاقية لـ"حماس" تجاه قضية الفلسطينيين تقتضي إيجاد مخارج سياسية وسياسية فقط لوقف الحرب، أي أن يكون هدفها في المفاوضات بقاء الفلسطينيين بالمعنى السياسي لا بقاؤها هي، فضلا عن حفظ أرواحهم ، ولكن محاسبتها السياسية والأخلاقية مرتبطة بكلفة بقائها في "اليوم التالي" للحرب هذا اذا بقيت علي حالها لان هذا البقاء لا يمثل فقط هزيمة لإسرائيل بل للسلطة الفلسطينية أيضا.هذا لا يعني افتراض أن "حماس" هي المسؤولة عن عرقلة المفاوضات وأن إسرائيل تستميت لوقف إطلاق النار. المسألة ليست على هذا النحو إطلاقا، لكن المقصود أن "حماس" يفترض أن تكون معنية أكثر من أي كان، سواء إسرائيل أو أي قوة إقليمية منخرطة في الصراع، بوقف الحرب ولو استدعى ذلك تنازلات أكبر منها ليس أمام إسرائيل وإنما أمام الفلسطينيين، من خلال فتح الطريق لإلغاء الانقسام الفلسطيني وتوحيد الرؤية السياسية الفلسطينية بما يمكن الفلسطينيين من دعم قضيتهم إقليميا ودوليا. وهذه نقطة مركزية في كل الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط، ان حلها يستند في الأساس علي قرار سياسي اكثر منه عسكري.
الدكتور حاتم صادق
أستاذ بجامعة حلوان